عمال ابو ديس: "يدفنوننا احياءً"

عمال ابو ديس: "يدفنوننا احياءً"

منذ ايار السابق اغلقت بشكل محكم كافة المنافذ في الجدار الفاصل في منطقة ابو ديس. آلاف العمال الذين عملوا حتى ذلك الوقت في القدس، بقوا دون مصدر رزق. ولا يطالب العمال بمنح ومساعدات، بل بافساح المجال امامهم للعمل داخل اسرائيل، المشكلة ان الامر لا يلقى اهتماما من الجهات السياسية الفلسطينية والاسرائيلية

اساف اديب

75 الف مواطن من المنطقة التي تشمل ابو ديس، العيزرية، السواحرة الشرقية وحي الشيخ سعد في شرقي القدس، يعيشون منذ عام في قفص مغلق وراء الجدار الفاصل، ممنوعون من دخول مدينة القدس.

تأثير الجدار على سكان هذه المنطقة بالذات يختلف عن تأثيره على مناطق اخرى في الضفة الغربية. فاذا كانت هناك حياة اقتصادية معينة في المدن الفلسطينية، مثل الخليل ونابلس ورام الله، فان منطقة ابو ديس والعيزرية معزولة تماما عن الضفة الغربية، والطريق الى بيت لحم او الى رام الله مرصوفة بالصعوبات ومزروع بالحواجز العسكرية. وتعتبر المنطقة بشكل طبيعي جزءا لا يتجزأ من القدس، واعتاد اهلها السكن في القدس والعمل فيها وتلقي الخدمات الحياتية فيها، وليس لهم عنوان آخر يمكّنهم من العيش. لذلك يعتبر اغلاق المنطقة بشكل محكم منذ عام ضربة قاضية.

في الزيارة التي قمنا بها الى ابو ديس يوم الخميس 12/4، شهدنا حركة في البلد، ولكن المظهر اختلف تماما عن الجمود الذي يعانيه العمال. الشارع الرئيسي الذي ربط ابو ديس والعيزرية بالقدس أُغلق بالجدار الفاصل عام 2003. ولكن الحكومة غضت الطرف لمدة ثلاثة اعوام عن الممرات غير الرسمية داخل الجدار، والتي من خلالها تمكّن المواطنون وآلاف العمال عديمي التصاريح من العبور للقدس لقضاء حاجاتهم.

انتهى هذا الترتيب في ايار 2006، وذلك بعد فتح الممر الرسمي في قلنديا في نيسان 2006، وصدور قرار محكمة العدل العليا بالسماح بمواصلة بناء الجدار الفاصل في شمال القدس. وتزامن الامر مع وقوع عملية انتحارية بتل ابيب في 17 نيسان 2006، وانتهى الامر الى قرار باغلاق محكم للممرات وكافة المنافذ في الجدار. في منتصف ايار 2006 أشرف رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت بنفسه على عملية الاغلاق في جولة قام بها الى المنطقة. بالنسبة لآلاف العمال الذين عملوا حتى ذلك اليوم في القدس، كان ذلك يوما اسود.



ابو ديس عاطلة عن العمل

"ابو ديس كلها عاطلة عن العمل"، يقول لنا العامل حسان محمود. يصعب التعبير بالكلمات عن الوضع الحقيقي للناس، من نساء ورجال يحملون احلاما ويملكون طاقات وقدرات ومهن مختلفة، وجميعهم محرومون من القيام باي عمل، ومن توفير لقمة العيش لعائلاتهم.

يصعب ايضا الحكم من يعاني اكثر: محمد عبد ربه (45 عاما) الذي يعيل سبعة اولاد وزوجة، والذي عمل 30 عاما في ورشات البناء في اسرائيل وهو مدير عمل مهني، ويلازم البيت منذ اغلاق الجدار؟ ام ان تمام عرار، معيلة وحيدة لاطفالها الاربعة، تعاني اكثر بسبب فقدانها مصدر الرزق بعد عمل عشر سنوات في بيت للمسنين بالقدس؟ ام هم الشباب الذين أُغلقت الحياة في وجوههم حتى قبل ان يخرجوا اليها؟

التقينا العمال بدعوة من نصر عبيدات، مدير جمعية المنى وامين سر نقابة الخدمات العامة في ابو ديس. شارك في اللقاء نحو 15 عاملا من رجال ونساء، كبار في السن وشباب، كلهم يحملون بطاقة هوية الضفة. بصفته نشيطا في العمل السياسي والنقابي منذ فترة طويلة، تحدث نصر عن اهمية متابعة قضايا العمال القانونية، واوضح ان مساعدتهم في ايجاد اماكن عمل في اسرائيل تحول الى مطلب اساسي.

مروان مطير (35 عاما) متزوج وله طفلان، عمل في بيت للمسنين في القدس لمدة سبع سنوات دون تصريح عمل. مثله كان 20-25 عاملا وعاملة من منطقة ابو ديس عملوا في نفس المكان، وفقدوا مكان عملهم منذ الاغلاق. مروان: "منذ يوم الاغلاق لا يمكننا الوصول الى العمل. وقد توجهنا الى صاحب العمل وطلبنا منه ان يسجلنا بشكل رسمي، لكنه قال انه غير معني، وان مسألة التصريح هي مسؤولية العامل نفسه، ومن ليس له تصريح فلا يمكنه تشغيله".

عن سؤالنا، من بدّلكم في مكان العمل، اجاب مروان: "حسبما سمعت فقد أدخلوا هناك عمالا من القدس الشرقية يحملون بطاقات هوية زرقاء وليسوا بحاجة الى تصريح عمل".

تمام عبد الرحمن عرار (45 عاما) هي المعيلة الوحيدة لاربعة اطفال. خلال 13 عاما عملت في بيت للمسنين بالقدس الشرقية دون تصريح رسمي. تمام: "مرةً واحدة، ودون سابق انذار، قاموا في 20 ايار 2006 باغلاق المعابر في وجوهنا، وادى الامر الى توقفي عن العمل. عندما توجهت الى بيت المسنين بطلب استصدار تصريح للعمل كان الجواب - عليك ان تحصلي على تصريح العمل بنفسك، مع ان التصريح الرسمي للعمل داخل اسرائيل يأتي فقط بعد تقديم صاحب العمل طلبا رسميا الى مكتب العمل التابع للادارة المدنية. النتيجة هي انني منذ عام عاطلة عن العمل".

محمد عبد ربه (45 عاما) متزوج وله سبعة اطفال، يعاني من نفس الوضع. محمد: "عملت 30 عاما في مجال البناء في اسرائيل، وآخر موقع عملت فيه كان في منطقة موديعين مع احد المقاولين من القدس الشرقية، ولكن اليوم المقاول والعمال ممنوعون من الدخول. من الممكن الحصول على تصريح للعمل في اسرائيل من احد الوكلاء الذين يبيعون تصريحا لمدة ثلاث اشهر مقابل 3000 شيكل. ولكن هذا التصريح لا يضمن لك مكان عمل، واذا دفعته سأكون بحاجة ان يشغلني صاحب العمل كل هذه المدة وان يدفع لي الاجر كي استطيع إعادة المبلغ. ناهيك عن انني لا املك اصلا ان ادفع هذا المال سلفا كما هو مطلوب".



5 شيكل للساعة

اذا كان من الممكن مبدئيا ان يحصل عامل فلسطيني متزوج فوق سن ال35، على تصريح رسمي للعمل في اسرائيل، شرط ان يقوم صاحب عمل اسرائيلي باستصدار التصريح، فان الشباب العزاب يبقون محرومين من التصريح، بسبب القيود التي فرضها القانون. ويعرض هذا الوضع الشباب الى محاولات المخابرات ابتزازهم لتحويلهم الى عملاء مقابل التصريح المنشود. اما المحاكم فتفرض عليهم غرامات مالية باهظة، وتقضي بسجنهم مرة تلو الاخرى بتهمة الدخول الى اسرائيل دون تصريح. هذا ولم نذكر الاهانات والاعتقالات المستمرة والمشقة التي يتعرضون لها في طريقهم الى اسرائيل.

حسان محمود (26 عاما) من سكان العيزرية يضحك ضحكة مريرة عندما نسأله عن الزواج: "كيف يمكنني ان اتزوج وليس لدي عمل ومصدر رزق؟". تعلم حسان في دورة خاصة لمهنة الفنادق في الاردن، وبعد عودته بحث طويلا عن عمل في كافة الفنادق والمطاعم في القدس، لكنه لم يجد مكان عمل بسبب سنه الصغيرة نسبيا.

حسان: "بعد مجهود كبير تمكنت من ايجاد مكان عمل في مطبخ تابع لمدرسة داخلية للطلاب اليهود المتدينين. وعملت هناك دون الحصول على قسيمة اجر رسمية ودون تصريح، وكان المدير يدفع لي 12 شيكل للساعة نقدا، علما انه كان يدفع لعمال مثلي من مواطني القدس 25 شيكل للساعة. استمر هذا الوضع حتى نيسان الماضي عندما قامت الشرطة باقتحام الداخلية، واعتقلت العمال الستة من الضفة الذين كانوا يعملون مثلي دون تصريح. مند عام تحديدا وانا عاطل عن العمل وليس لي مصدر رزق ثابت. احيانا اجد عملا ليوم واحد في حفلة، واتعطل عن العمل بعدها عشرة ايام".

عن سؤالنا عن البطاقة الممغنطة قال حسان: "قدمت طلبا للحصول على بطاقة ممغنطة تشير انني بلا سوابق امنية وتمهد لحصولي على تصريح العمل. ولكن الضابط المسؤول في المخابرات سألني: ‘نحن سنعطيك الممغنط، فماذا ستعطينا في المقابل؟‘ فرفضت التعاون معهم، والنتيجة انني لم احصل على البطاقة الممغنطة حتى اليوم".

محمد بصة (22 عاما) عمل مع مقاول في مجال الكهرباء وكان يتقاضى اجرا عاليا، ولكنه لم يحصل على تصريح عمل. بعد شهر قال له المقاول انه لن يستطيع تشغيله بسبب الغرامات المفروضة على من يشغّل عمالا فلسطينيين دون تصريح.

محمد: "حاولت بعد ذلك ان اعمل في مصنع للنسيج في مستوطنة معاليه ادوميم. عملت من الساعة السابعة صباحا حتى الواحدة بعد منتصف الليل مقابل 80 شيكلا لليوم، او ما يقارب 5 شيكل للساعة. المصانع في هذه المستوطنة تشغل العمال عادة 12 ساعة مقابل هذا الاجر، والناس تتمسك بهذا العمل لعدم وجود بديل".

علي عواد (20 عاما) من ابو ديس عمل في فندق كريستمس في القدس الشرقية مدة عام ونصف مقابل 10 شيكل للساعة، او 2500 شيكل شهريا بعد ادائه ساعات اضافية طويلة، وكان راضيا. لكن الشرطة اعتقلته عدة مرات. "في الاعتقال الاول افرجوا عني بعد ان اجبروني ان اوقع انني لن اعود للعمل دون تصريح. في المرة الثانية انهالوا علي بالضرب المبرح ووقّعت من جديد على نفس التعهد. في المرة الثالثة حكموا علي بدفع 9000 شيكل مع وقف التنفيذ في حالة اعتقلت مرة اخرى. اليوم امتنع عن الذهاب للعمل خشية ان اعتقل من جديد واضطر لدفع هذا المبلغ الباهظ".



ما العمل؟

كان المفروض ان تكون الظروف الصعبة التي تمر بها الطبقة العاملة بالضفة الغربية، على رأس سلم الاولويات في المداولات السياسية الجارية في المنطقة. لكننا في الواقع نشهد قلة اهتمام في الموضوع. في ظل نظام الدول المانحة الذي اصبح الحالة الدائمة في المناطق الفلسطينية منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، لا يدور حديث عن خلق اماكن عمل بل عن كيفية الحصول على المساعدات والمنح. اما العمال الذين التقينا بهم فلا يطلبون المنح او المساعدات بل يركّزون مطالبهم على فتح اماكن العمل داخل اسرائيل وضمان حقوقهم.

العراقيل امام طلب بسيط من هذا النوع كبيرة دون شك. العمال الفلسطينيون يستحقون الدعم والتضامن من كافة النقابات العمالية والمؤسسات السياسية الحقوقية والانسانية في العالم لتحقيق مطلبهم العادل الذي لا يمكن رفضه - توفير مكان العمل حتى يتمكنوا من العيش بكرامة.